ناصر قنديل
حفلت الصالونات السياسية والتحليلات الإعلامية بطرح فرضية الإعداد لحرب أميركية «إسرائيلية» جديدة، وتفاوتت بين فرضيات حرب على حزب الله أو عليه وعلى سورية أو حرب شاملة تطال معهما إيران. كما تفاوتت في تقدير نوعيتها بين الضربات الجوية أو الغزو البري أو كليهما، لكنها اعتمدت على مقدّمات واحدة تختصرها مسألتان، التصعيد الإعلامي والسياسي غير المسبوق على قوى المقاومة وحكومات محورها، على أعلى المستويات الأميركية و«الإسرائيلية»، ومن ضمنها التبشير بالحرب، والثانية حجم الخسائر التي ستُمنى بها أميركا و«إسرائيل» إذا استسلمت لقبول الوقائع الناجمة عن التطورات التي يسجلها مسار المواجهة في سورية خصوصاً، وتعاظم قوة حزب الله، وتنامي مكانة إيران، وصعود الدور الروسي. وبالتالي الانطلاق من استحالة هذا الاستسلام، يصير القول بالحرب خياراً حتمياً، حسب استنتاج أصحاب هذه الفرضية، التي تحدّث عنها كثيرون من كتّاب ومحللين يؤيدون قوى المقاومة ومحورها، كان أوضحهم كتابة ما نشره الزميل والصديق الأستاذ عبد الباري عطوان رئيس تحرير «رأي اليوم».
يقول الأستاذ عطوان، في مطلع مقالته، «هل الحَرب الثّالثة» على لبنان في طَوْر الإعداد؟ ومتى سَتنفجر؟ ولماذا يَحتفل ترامب بذِكرى مَقتل «المارينز» في بيروت فجأةً بعد 34 عاماً؟ وهل سَيضع «حزب الله» مكان «الدولة الإسلاميّة» على قائمة الحَرب على الإرهاب بعد انهيار الأخيرة؟ فَتّش عن إيفانكا وزَوجها كوشنر». ثم يقول في ختامها، «راقبوا السيناريو الأميركي الإسرائيلي، وتطبيقاته المُتوقّعة في لبنان.. إنّها الحَرب.. ومَن يَقول غير ذلك لا يَعرف التّاريخ الأميركي الحديث، ولم يَقتنع بعد بأنّ ترامب أكثر ارتماءً في حُضن المُخطّطات الإسرائيليّة من نَظيره السّابق جورج دبليو بوش.. والأيام بيننا».
بالتأكيد لا تنطلق مناقشة فرضيات الحرب من تفاصيل السيناريوات المتداولة الترجيح بينها، فهذا تفصيل. ولا من تقييم درجة ارتماء الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أحضان المصالح والتطلعات «الإسرائيلية» والأشدّ تطرفاً في أميركا نفسها، فهذا تحصيل حاصل. ولا من حجم الصفعة التاريخية والخسارة التي لا تُحتمل اللتين ستصيبان أميركا إذا تركت الأمور على حالها، فهذا واضح وجلي. ولا من مضمون حملة التصعيد الأميركية «الإسرائيلية» الأخيرة وحجم تعبيرها عن الغيظ والحنق مما يجري، ومن حجم ونوع انتصارات المحور الروسي الإيراني السوري والذي يقع حزب الله في قلبه، وحجم ما يترتب على تعاظم قوة حزب الله إقليمياً بصورة عامة، وعلى «إسرائيل» بصورة خاصة، فهذا يقوله أصحاب الأمر أنفسهم. القضية ببساطة هي الإجابة عن سؤال: هل تملك أميركا و«إسرائيل» ما يقول بأنهما قادرتان على خوض حرب تخرجان منها أفضل حالاً مما هما عليه اليوم؟
ليس المطلوب هنا الجواب أيضاً حسب تقديراتنا نحن، والتي قد تتهم بالمبالغة في قراءة مصادر القوة، أو التي قد يُجاب عليها بالقول إنّ أميركا و«إسرائيل» سبق وخاضتا حروباً مبنية على خطأ جسيم في الحسابات. فالتحليل الذي يقطع الشك باليقين هو ما تقوله التصرفات والوقائع الأميركية «الإسرائيلية» نفسها، والتي تعبّر في حركتها عن التقدير الفعلي والحقيقي لصنّاع القرار في واشنطن وتل أبيب، لمدى امتلاك شروط وظروف اتخاذ قرار حرب.
هل تغيّرت الحسابات والوقائع التي تصنع قرار الحرب، عما كانت عليه عام 2013، عندما جاءت الأساطيل الأميركية إلى المتوسط وأحجمت عن مواصلة قرار الحرب بسبب مخاطر المواجهة، وارتضت لتغطية التراجع عن قرار الحرب بالحلّ السياسي للسلاح الكيميائي السوري، تعويضاً معنوياً شكلياً يعترف الأميركيون أنه بلا قيمة في صناعة موازين القوى الحقيقية، التي كانت الحرب وحدها ستغيّرها، لو كانت الحسابات تتيح خوضها؟
قد يُجيب البعض هنا بالقول إنّ الأمر يتصل بالفارق بين إدارة الرئيس السابق باراك أوباما العقلانية والقيادة المتهوّرة والمتطرفة لإدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب، رغم الفوارق التي تعاكس قرار الحرب أكثر منذ عام 2013، حيث لم يكن الروس قد صاروا هنا، ولا إيران حازت اتفاقاً مربحاً حول ملفها النووي، ولا السعودية تورّطت بحرب اليمن، ولا تركيا صارت عملياً خارج الحلف، ولا الدولة السورية وجيشها في ما هم عليه الآن من استرداد حلب وصولاً لدير الزور. ورغم ذلك لا بدّ من تفحّص عزائم مرحلة ترامب نتنياهو، والمثال أمامنا في الخط الأحمر الجدّي الوحيد الذي رسمه ترامب وإدارته، وهو منع تواصل قوى محور المقاومة عبر الحدود السورية العراقية، وداسه الحشد الشعبي والجيش السوري والجيش العراقي ورجال المقاومة مراراً، وعلى طول مئة كيلومتر على الأقلّ، وبدلاً من أن يذهب ترامب للحرب، جرّد جماعاته المسلحة التابعة له من سلاحها تفادياً لمخاطر الانزلاق للحرب.
التفحّص الحقيقي للموازين، كما تقرأها واشنطن وتل أبيب يظهره التعامل مع فرصة ذهبية للحرب مرّت امام أعينهم. وها هي تضيع أمام أعينهم أيضاً، لأنهم رفضوا التورّط فيها، وهي ما مثله إعلان الانفصال في كردستان العراق، ولا يوجد مَن يناقش في حجم ما يمثل مسعود البرزاني لكلّ من واشنطن وتل أبيب، ولا في حجم ما تمثل كردستان العراق من مكان ومكانة في الجغرافيا والديمغرافيا السكانية، تتيح كقاعدة متقدّمة للمشروع الأميركي «الإسرائيلي» التأسيس لتقسيم كيانات معادية أو يصعب ضبطها، فتسقط وحدة إيران وسورية وتركيا والعراق بضربة واحدة، وينطلق مسار ولادة كيان يضمّ أكراد الدول الأربع يصل للبحر المتوسط ويفتح باب تفكك الكيانات الأربعة، ويبني قوة شعبية مقاتلة تعوّض العجز البشري في حلف أميركا و«إسرائيل» ومَن معهما، وتحت عنوان مذهبي يلتحق به مَن يمكن زجّهم بالتعاون السعودي في كلّ من سورية والعراق وتركيا ولبنان، وتنشأ قاعدة عسكرية لأميركا و«إسرائيل» على حدود إيران، تستضيف طائراتهما وأجهزة التنصّت، و«مجاهدي خلق»، وكلّ من يريد التخريب داخل إيران.
السؤال الذي يحتاج لجواب، غير العجز عن تحمّل تبعات قرار الحرب، هو كيف ضاعت كردستان، وضاع معها تراكم عمره عشرات السنوات؟ ومن سيجرؤ بعد الآن على الدعوة مجدّداً للانفصال بين الأكراد؟ وهل قام البرزاني بخطوته بلا رهان على دعم أميركي «إسرائيلي»؟ وهل تراجع وانسحب من كركوك، فقط لأنّ الاتحاد الوطني الكردستاني سحب عناصره منها، أم لأنه أدرك عندما جاءته المعلومات عما جرى في السليمانية، وعرض الربع الأخير من الساعة على لسان الجنرال قاسم سليماني، وأجرى اتصاله بالجنرال هربرت ماكماستر، فجاءه الجواب سندعمكم بتصريح؟
اليوم يغادر البرزاني الحكم ومعه تحوّل حلم الانفصال إلى كابوس للأكراد، لأنّ البرزاني يدرك أنه هُزم في الحرب وانتهى الأمر، وأنه خاض آخر الحروب الأميركية «الإسرائيلية»، لأنّ مَن لم يخض الحرب تحت عنوان الانفصال الكردي، و«حق الشعوب في تقرير المصير» ولديه كلّ الفرص الذهبية التي تمنح آمالاً بإقامة التوازن إن لم يكن بتحقيق النصر، والتي لا تتوفر في أيّ عنوان آخر، فلن يخوضها حيث كلّ شيء يقول بالخسارة والفشل.